تحولات الرأي العام الغربي تجاه إسرائيل- ذعر وهلع إسرائيلي متصاعد

المؤلف: د. عبد الله معروف08.27.2025
تحولات الرأي العام الغربي تجاه إسرائيل- ذعر وهلع إسرائيلي متصاعد

يعيش الرأي العام الغربي، كما يرى أغلب المحللين، تحولات جذرية وغير مسبوقة تجاه إسرائيل، خاصةً بعد مضي ما يزيد على عشرين شهرًا على الحرب الطاحنة في قطاع غزة، والتي تتكشف فصولها المأساوية أمام العالم أجمع.

هذه التحولات تتبدى بشكل خاص لدى جيل الشباب في الدول الغربية، الذي لطالما أظهر تعاطفًا أوليًا مع القضية الفلسطينية يفوق ما هو موجود لدى الأجيال الأكبر سنًا. إلا أن هذا التعاطف قد تحول اليوم إلى موجة عداء سافر وعلني تجاه كل ما تمثله إسرائيل ومشروعها الاستيطاني في المنطقة. وصل الأمر إلى مشهد غير مألوف في حفل غلاستونبري بالمملكة المتحدة، حيث ردد آلاف الشباب البريطانيين خلف مغني الراب بوب فايلان هتاف: "الموت لجيش الدفاع الإسرائيلي".

يعد هذا الهتاف تجاوزًا لمجرد التعاطف العام مع فلسطين، والذي كان يتم التعبير عنه بعبارات مثل "فلسطين حرة" أو "من النهر إلى البحر.. فلسطين ستكون حرة". هذه العبارات، على الرغم من المحاولات الإسرائيلية المستمرة لتجريمها، لم تكن تعبر بشكل صريح عن العداء للمشروع الإسرائيلي. أما الهتاف الجديد، فهو إعلان عن عداء واضح لجيش الاحتلال الإسرائيلي، يصل إلى حد ذكر لفظ "الموت" بكل ما يحمله من معانٍ ودلالات.

الجدير بالملاحظة في هذه التطورات هو أن الهتافات الأخيرة تحرص على إعلان العداء تحديدًا لجيش الاحتلال الإسرائيلي، الذي بات يمثل سردية العنف المطلق وجرائم الحرب التي تفوح رائحتها في كل مكان. على الرغم من إصرار إسرائيل على أن هذه الهتافات تشمل المجتمع الإسرائيلي برمته، فإن هذه المفارقة تكشف عن مدى ارتباك الموقف الإسرائيلي.

تعيش إسرائيل حاليًا حالة من الذعر الحقيقي تفوق ما عهد عنها في العقود الماضية من محاولات مستمرة ومبتذلة لاستعراض دور الضحية تحت ستار "معاداة السامية". ففي الماضي، كانت سردية المظلومية الإسرائيلية تتوارى خلف عناوين النجاح والتفوق، حيث كانت تقدم نفسها على أنها "الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط" و"بقعة مضيئة في محيط مظلم".

لم تكن هذه الشعارات تعكس قلقًا إسرائيليًا حقيقيًا بشأن مكانتها في العالم الغربي، سواء على مستوى الشعوب أو الحكومات. فقد كانت دولة الاحتلال تعتقد أنها نجحت على مر السنين في تغيير القناعات الشعبية الغربية حول إسرائيل، وذلك بفضل نفوذها وقوتها الإعلامية الهائلة.

إلا أن التطورات الأخيرة قد أصابت إسرائيل بالهلع حقًا، لأنها تشهد اليوم انهيار المنظومة الإعلامية التي بنتها على مدى سبعة عقود في غضون أشهر قليلة. المفارقة تكمن في أن هذا الانهيار يحدث باستخدام نفس الأدوات التي تفوقت إسرائيل وأذرعها في استخدامها، وهي الإعلام.

لكن الفارق الجوهري هذه المرة هو أن الإعلام الذي نتحدث عنه اليوم لم يعد الإعلام الموجه الذي يتطلب إنفاق الملايين من الدولارات وعبر شركات ومؤسسات محددة، بل هو الإعلام الاجتماعي المفتوح والمجاني، الذي أصبح أداة قاتلة تصيب إسرائيل في الصميم.

لذلك، نشهد اليوم حالة من الذعر تصيب عددًا لا يستهان به من مراكز البحث والإعلام التابعة والداعمة لإسرائيل، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، وذلك مع انتشار معطيات الصورة الجديدة لإسرائيل أمام الشعوب الغربية.

في هذا السياق، نرى مراكز دراسات مرموقة، مثل معهد هاريس المتخصص في دراسات السوق ومركز الدراسات السياسية الأميركية بجامعة هارفارد، تعمل باستمرار على قياس الرأي العام الأميركي فيما يتعلق بإسرائيل ونظرة الشعب الأميركي إليها.

وتقوم هذه المراكز بنشر نتائج هذه الاستطلاعات بشكل دوري، وهو ما ينعكس فورًا في وسائل الإعلام الإسرائيلية التي تتناولها بتحليل معمق.

على سبيل المثال، أظهرت الدراسة التي أجراها المعهدان في نهاية أكتوبر/تشرين الأول 2023، عشية بدء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، أن التأييد العام لإسرائيل لدى الشعب الأميركي كان يصل إلى 84%، مقابل 16% فقط لحركة حماس.

وعلى الرغم من أن هذه النتيجة تبدو مرضية لصانع السياسة الإسرائيلي، فإن وسائل الإعلام الإسرائيلية التي تناولت هذا الاستطلاع تجاهلت هذه النسبة وركزت على نتيجة الشباب الأميركي، التي كانت مختلفة بشكل كبير عن المجموع العام لفئات الشعب الأميركي كافة. فقد كانت نسبة التأييد لإسرائيل لدى الشباب تصل إلى 52%، مقابل 48% مؤيدة لحماس، وهو ما اعتبرته صحيفة (جيروزاليم بوست) بمثابة جرس إنذار خطير في ذلك الوقت.

ما أثار الرعب بشكل أكبر في إسرائيل خلال الأسابيع القليلة الماضية هو التقلص الملحوظ في هذا الفارق. فقد أظهر الاستطلاع الذي قام به كلا المعهدين في نهاية يونيو/حزيران الماضي ازدياد نسبة التأييد الأميركي العام لحركة حماس لتصل إلى 25%، مع بقاء نسبة التأييد لدى الشباب الأميركي على نفس حالها السابق تقريبًا قبل عشرين شهرًا. هذا الأمر يشير بوضوح إلى تغير المزاج الشعبي لدى بقية مكونات الشعب الأميركي، وليس الشباب فقط.

السؤال الذي يطرح نفسه هنا: كيف تنظر إسرائيل إلى هذه النتائج والاستطلاعات، وكيف تتعامل معها؟

الحقيقة هي أن إسرائيل، بجميع مكوناتها، تنظر بمنتهى الجدية إلى هذه التغييرات الجوهرية في نظرة الشعوب الغربية إليها. ويبدو أن هذا ما استدعى تحول الدعاية الإسرائيلية من الدفاع إلى الهجوم على كل ما يمكن أن يشير، ولو بشكل عابر، إلى تأييد الفلسطينيين في هذا الصراع.

لذلك، رأينا عصا "معاداة السامية" ترفع من جديد وبشكل مستفز. فقد أصبح وسم أي شخص ينتقد إسرائيل بأنه "معاد للسامية" أمرًا شائعًا في الأوساط الرسمية والإعلامية الإسرائيلية، حتى وإن كان هذا المنتقد من أشد المدافعين السابقين عن إسرائيل في أعقاب السابع من أكتوبر/تشرين الأول، كما هو الحال لدى الإعلامي البريطاني المعروف بيرس مورغان. أو حتى لو كان هذا المنتقد منظمة أممية أو شخصية مرموقة من قادتها، كما هو الحال في منظمة الأونروا، أو الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، أو المقررة الأممية لحقوق الإنسان في فلسطين فرانشيسكا ألبانيزي، وغيرهم.

تفسر إسرائيل هذا العداء المتزايد لدى المجتمعات الغربية على أنه امتداد لحالة الكراهية القديمة التي عانى منها اليهود أثناء القرن العشرين في أوروبا، وخاصة خلال فترة الحرب العالمية الثانية.

وهو ما يفسر ردة الفعل الإسرائيلية المبالغ فيها تجاه هذه الموجة، وهذا يثبت أنها ترى أن موجة العداء لإسرائيل اليوم ليست مجرد موجة عابرة، وإنما تعكس تحولًا استراتيجيًا عميقًا لدى المجتمع الغربي. وهو ما يشير إليه تقرير المنظمة الصهيونية العالمية والوكالة اليهودية بداية هذا العام، والذي بالغ في الأمر فوصم نصف البالغين في العالم بالعداء للسامية، في دراسة موسعة تناولت دول العالم بالتفصيل قدمتها الهيئتان إلى الرئيس الإسرائيلي هرتسوغ.

الجدير بالذكر أن هذه الدراسة توصلت إلى نتيجة مفادها أن العداء للصهيونية ينطوي على عداء للسامية، وبذلك خلطت الدراسة بين مفاهيم اليهودية والصهيونية والسامية والإسرائيلية لتجعلها شيئًا واحدًا. وهو ما دفعها إلى الاعتقاد بأن الحل يكمن في الضغط لتصنيف العداء للصهيونية على أنه عداء للسامية، تمامًا كما اعتبرت أن نداء "الموت لجيش الدفاع الإسرائيلي" لا يستهدف جيش الاحتلال، بل المجتمع الإسرائيلي بأكمله.

وفي ذلك تقع إسرائيل وحكومتها اليوم في خطأ استراتيجي فادح سيكلفها الكثير، حيث إنها بهذا المستوى من الذعر الذي تبديه من أي انتقاد أو نداء حاد ضدها أو ضد جيشها، تثبت أن إسرائيل ليست دولة لديها جيش، بل هي جيش يمتلك دولة فقط. وبذلك تجرد شعبها من صفة "المدنية" من حيث لا تدري، وهذا أولًا.

كما تقع إسرائيل بذلك أيضًا في فخ الجدال العقيم، فكثرة ترديد اتهامات "العداء للسامية" المبتذلة جعلت الشعوب الغربية تتجاوز خوفها المرضي القديم من هذا الاتهام، بدافع الملل منه.

وعلى عكس التوقعات، وجدت عبارة مثل "الموت لجيش الدفاع الإسرائيلي" أصواتًا قوية في المجتمعات الغربية تدافع عنها وتقلل من شأنها، على عكس الدعاية الإسرائيلية، كما فعل المذيع البريطاني جيمس أوبراين والصحفي البريطاني جيرمي فين، وغيرهما ممن قللوا بشكل مباشر وغير مباشر من أهمية هذا النداء، مقارنة بخطورة وضخامة جرائم الحرب التي يرتكبها جيش الاحتلال في قطاع غزة.

يمكن ملاحظة هذا الأمر أيضًا في انتشار هذا النداء في مقاطع فيديو عديدة من عواصم أوروبية مختلفة، حيث يظهر النداء مكتوبًا على الجدران، سواء بشكل فعلي أو باستخدام الذكاء الاصطناعي. وهذا يشير إلى سأم الشعوب الغربية من الأساليب القديمة التي طالما استخدمتها إسرائيل في ترهيب وقمع معارضيها في العالم الغربي.

إن مجرد نظرة سريعة على المواد المنشورة في وسائل الإعلام الإسرائيلية، أو عبر المنصات الإعلامية أو السياسية أو البحثية الإسرائيلية، تكشف عن مدى الهلع الذي تعيشه إسرائيل اليوم بسبب تآكل شعبيتها في أوساط الشعوب الغربية. فإسرائيل تدرك أن التحول الاستراتيجي في المزاج الشعبي في الغرب هو المفتاح لتغيير السياسات تجاه مختلف القضايا، وذلك من خلال إجراء تغييرات شاملة عبر الانتخابات، التي قد تسفر في النهاية عن نتائج لا ترغب إسرائيل في رؤيتها.

ولعل فوز زهران ممداني – الذي تتهمه الدعاية الإسرائيلية بمعاداة السامية – بترشيح الحزب الديمقراطي لمنصب عمدة مدينة نيويورك هو أحد الأمثلة الصارخة على ما يمكن أن تسفر عنه الشهور والسنوات القادمة.

ولذلك، فإن التخبط الإسرائيلي في التعامل مع هذه القضية يجب أن يكون بمثابة فرصة ثمينة للمدافعين عن القضية الفلسطينية، وخاصة من الجاليات العربية والمسلمة في الدول الغربية، للوصول إلى شرائح جديدة لم تكن تعلم مسبقًا بما يجري في الأراضي الفلسطينية، ولا حتى أين تقع، وهو واجب الوقت.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة